سورة الطلاق - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الطلاق)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {وكَأَيِّن من قريةٍ} أي: كثير من أهل قرية {عَتَتْ}؛ أعرضت {عن أمر ربها ورُسلِه} أي: عن طاعتهما على وجه العتوّ والعناد، {فحاسبناها حِساباً شديداً} بالاستقصاء والتنقير والمباحثة في كل نقير وقطمير، {وعذَّبناها عذاباً نُكراً}؛ منكراً فظيعاً، والمراد: إمّا عذاب الآخرة، والتعبير بالماضي لتحقُّق وقوعه، أو عذاب الدنيا، وهو أرجح؛ لأنه سيذكر عذاب الآخرة بعدُ بقوله: {أعدّ اللهُ لهم عذاباً شديداً...} إلخ، {فذاقت وَبَالَ أمرِها} أي: وخامة شأنها، وعقوبة فعلها. قال في الصحاح: والوَبَلَة بالتحريك: الثِقَّلُ والوخَامةُ، وقد وَبُل المرتعُ بالضم وَبْلاً ووَبَالاً، فهو وَبيلٌ، أي: وخِيمٌ. اهـ. وفي القاموس: وبُلَ ككَرُمَ وبَالةً ووبالاً ووبُولاً، وأرض وَبِيلَةٌ: وخيمةُ المرتَعِ. اهـ. {وكان عاقبةُ أمرها خُسراً} أي: خساراً وهلاكاً.
{أعدَّ اللهُ لهم} في الآخرة {عذاباً شديداً}، وعلى أنَّ الكل في الآخرة يكون هذا تكريراً للوعيد وبياناً لكونه مترقباً، كأنه قال: أعدّ الله لهم هذا العذاب الشديد، {فاتقوا اللهَ يا أُولي الألبابِ} في مخالفة أمره، واحذروا ما حلّ بمَن طغى وعتا. وأولو الألباب هم أهل العقول الصافية، ثم فسَّرهم بقوله: {الذين آمنوا} إيماناً خالصاً من شوائب الشرك والشك، فالموصول عطف بيان لأولي الألباب، أو نعت، أو منصوب بأعِني، {قد أنزل اللهُ إِليكم ذكراً} أي: القرآن.
وانتصب {رسولا} بفعل مضمر، أي: وأرسل رسولاً، أو: هو بدل من {ذِكْراً} كأنه في نفسه ذكر، أو: على تقدير حذف مضاف، قد أنزل ذا ذكر رسولاً، وأريد بالذكر: الشرف، كقوله: {وَإِنَهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] أي: ذو شرف ومجدٍ عند الله، أو: للمنزَل عليه، أو: لقارئه، وبالرسول: جبريل، أو محمد عليهما الصلاة والسلام {يتلوا} أي: الرسول، أو الله عزّ وجل {عليكم آياتِ الله مُبينات} أي: واضحاتٍ، قد بيَّنها اللهُ تعالى لقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأيات} [آل عمران: 118والحديد: 17] وقرىء بكسر الياء، أي: تُبين ما تحتاجون إليه من الأحكام، {لِيُخرج الذين آمنوا وَعمِلوا الصالحاتِ من الظلمات إِلى النور} متعلق ب {يتلو}، أو: ب {أنزل}، وفاعل يُخرج إما الله، أو الرسول، أي: ليحصّل لهم الله أو الرسول ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح، أو: ليخرج من عَلِمَ وقدّر أنه سيؤمن، {ومَن يؤمن بالله ويعمل صالحاً} حسبما بُيّن في تضاعيف ما أنزل من الآيات المبينات {يُدخله جنات تجري من تحتها الأنهارُ}، وقرأ نافع والشامي بنون العظمة {خالدين فيها أبداً}، والجمع باعتبار معنى {من} كما أنَّ الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها، {قد أحسن اللهُ له رزقاً} في الدنيا والآخرة. قال القشيري: الرزقُ الحَسَنُ: ما كان على حَدِّ الكفاية، لا نقصان فيه، ليضعف عن كفاية صاحبه، ولا زيادةَ فيه تَشْغَلهُ عن ربهم. اهـ. بالمعنى. وسيأتي في الإشارة بقيته.
الإشارة: وكأيّن من قريةٍ من قرى القلوب عتت عن أمر ربها؛ عن تحمُّل أعباء العبودية؛ لأنّ القلب لا يحب إلا العلو والغنى والراحة، فإذا أراد العبد أن ينزل إلى الخمول والذل والفقر والتعب عَتَا وتَكَبَّر، وقد حكم اللهُ تعالى بالطبع على القلب المتكبّر، بقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] في قراءة الإضافة، والمراد بالرسل: الواردات القهرية، فالقلب أيضاً شأنه الفرار منها؛ لأنها تهدم عليه عوائده، وحسابه تعالى لها إحصاؤه لخواطرها، وعتابه عليها، وتعذيبه بالجزع والهلع، والحرص والطمع، وغم الحجاب وسوء الحساب، فهذا وبال القلوب المتكبِّرة على الله، وعلى أولياء الله، وعاقبتها حرمان نعيم الحضرة، ونسيم القربة. فاتقوا الله يا أولي الألباب: القلوب الصافية، أي: دُوموا على تقواكم، واحْذروا مما حلّ بالقلوب الخاربة، الذين آمنوا إيمان الخصوص، قد أنزل الله إليكم ذكراً، أي: مذكِّراً، رسولاً بعثه الله خليفةَ رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهو الشيخ الداعي إلى الله، يتلو عليكم آياته، أي: شواهده الموصِّلة إليه، ليُخرج الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات، وهي آداب العبودية، من ظلمات الجهل والغفلة، وحس الكائنات إلى نور العيان، ومَن يُؤمن بالله، ويثق به في جميع أموره، (ويعمل صالحاً) يُعرض عما سوى الله، يُدخله جنات المعارف، يخلد فيها، قد أحسن اللهُ له رزقاً لقلبه وروحه وسره، من العلوم والمعارف والأسرار. قال القشيري بعد كلام: وكذلك أرزاقُ القلوب أي: تكون على حد الكفاية، من غير زيادة ولا نقصان ثم قال: وحسنها: أن يكون له من الأحوال ما يشتغلُ به في الوقت من غير نقصان يجعله يتعذّب بتعطُّشه، ولا تكون بزيادة، فيكون على خَطَرٍ من مغاليط لا يَخْرُجُ منها إلاّ بتأييدٍ من الله سماويٍّ. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {اللهُ الذي خلق سبعَ سموات}: مبتدأ وخبر، وقد أجمع المفسرون أنَّ السموات سبع، {ومن الأرض مثلَهن}، وليس في القرآن آية تدل على أنَّ الأرضين سبع غير هذه الآية، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وغلظ كلّ سماءٍ كلذلك، والأرضون مثل السموات، والجمهور أنها طباق، بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة، كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سُكَّان مِن خلق الله تعالى، قيل: الجن، وقيل: الملائكة، وقال الضحاك: مطبقة بعضها فوق بعض، من غير فتوق، بخلاف السموات. قال القرطبي: والأول هو الأصح؛ لأنَّ الأخبار دالة عليه، كما ورد في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا رأى قرية أو مدينة: «اللهم رب السموات السبع، وما أظللن، ورب الأرضين السبع، وما أقللن...» الحديث. وفي الحديث أيضاً: «مَن غصب شبراً من أرض طوّقه الله له من سَبْع أرَضِين». اهـ.
واختلف: هل يرون السماء، ويستمدًّون منها الضوء، قولان، أحدهما: إنهم يُشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم، ويستمدُّون الضياء منها، والثاني: أنهم لا يُشاهدون السماء، وأنَّ الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه. وعن ابن عباس أيضاً: «إنها سبع أرضين متفرقة بالبحار وتظل الجميع السماء». وقيل: الأرض واحدة إلاَّ أنَّ الأقاليم سبعة، فالمثلية على هذا في عِظم الجرم، وكثرة العمار، وغير ذلك. والأول أرجح لِما تقدّم. وقد ذكر المنذري حديثاً بيَّن فيه ما يعمرُ أرض، فبعضها فيها حجارة الكبريت وقوم جهنم، وبعضها فيها خزائن الريح، وفي أسفلها عرش إبليس، فانظره.
{يَتَنزَّلُ الأمرُ بينهن} أي: يجري أمره وقضاؤه بينهن، وينفذ حكمُه فيهن. وعن قتادة: في كل سماءٍ وفي كل أرضٍ خلقٌ مِن خلقه، وأمرٌ نافذ من أمره، وقضاء من قضائه. وقيل: هو ما يدبّر فيه من عجائب تدبيره، من إنزال المطر، وإنبات النبات، والإتيان بالليل والنهار، والصيف والشتاء، وخلق الحيوانات المختلفة. وقال الغزالي: يتنزّل الأمر بالقدر من حضرة الربوبية إلى حملة العرش، ثم تتلقى ملائكة السموات ذلك منهم، ثم تصريفهم بذلك إلى أهل الأرض، وإجرائهم على مقتضاه. وقيل: يتنزّل الأمر بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى، وهل لكل أرض رسول، أم لا؟ الله أعلم.
{لتعلموا أنَّ اللهَ على كل شيءٍ قديرٌ} أي: فعل ذلك لتعلموا عموم قدرته، {وأنَّ اللهَ قد أحاط بكل شيءٍ علماً} لاستحالة صدور هذه الأفاعيل المذكورة ممن ليس كذلك. ويجوز أن يكون العامل في اللام بيان ما ذكر من الخلق وتنزُّل الأمر، أي: أوضَحَ ذلك بيّنه لتعلموا بما ذكر من الأمور التي تُشاهدونها، والتي تتلقونها من الوحي، وعجائب المصنوعات، أنه لا يخرج عن قدرته وعلمه شيء أصلاً.
الإشارة: سموات الأرواح سبع طبقات، تعرج فيها إلى عرش الحضرة. سماء التوبة، ثم سماء الصبر، ثم سماء الورع والزهد، ثم سماء الرضا والتسليم، ثم سماء المحبة، ثم سماء المراقبة، ثم سماء المشاهدة، ثم الاستواء على عرش الحضرة، في حضرة الأسرار. وأرض العبودية سبع أيضاً، وبالتنزُّل فيها تهوي النفس إلى عرش إبليس، في حضرة الفرق، وبالخروج عنها تعرج في سماوات الأرواح، وهي أرض الشهوة، ثم أرض الغفلة، ثم أرض حب الدنيا، ثم أرض حب العلو والجاه، ثم أرض هَم الرزق وخوف الفقر، ثم أرض التدبير والاختيار، ثم أرض الغضب والحقد والحسد، فبهذه الأخلاق المذمومة يهوي العبد إلى أسفل سافلين. فإذا ترقّى عن هذه الأرضين، وسما في سماء الأرواح، يتنزّل على قلبه الوحي الإلهامي، والكشف الرباني. قال تعالى: {يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أنّ الله على كل شيءٍ قدير}، أي: ليحصل لكم العلم الحقيقي بقدرة الله وعلمه وإحاطة ذاته.
قال الورتجبي: لو كانت للأشباح قيمة في المعرفة كالأرواح لم يخاطبها بالعلل والاستدلال، لتعلم برؤية الأشياء وجود الحق، وكانت كالأرواح في الخطاب بلا عِلّة في تعريف نفسه إياها بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] هناك خطاب وشهود وتعريف بلا عِلّة، فلما عَلِمَ عجزها عن حمل واردات الخطاب الصِّرف أحالها إلى الشواهد، وليس بعارفٍ في الحقيقة مَن عرفه بشيءٍ من الأشياء، وسببٍ من الأسباب، فمَن نظر إلى خلق الكون يعرف أنه ذو قدرة واسعة وإحاطة شاملة، يخاف من قهره، ويذوب قلبه بعلمه في رؤية اطلاع الحق تعالى عليه. اهـ. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.

1 | 2